هـذا هو الإسـلام ـ حـوار هـادئ مع قداسة بابا الفاتيكان بقلم فضيلة الإمام الأكبر: د. محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهـــــر ـ الجزء السابع عشر
01 مارس, 2007
4 ـ التواضع : وهذه الفضيلة تُعَد من ألزم اللوازم لنجاح الحوار ، بينما التعالى والغرور بين المتحاورين يؤدى إلى سد الأبواب المفتوحة . ولقد ساق لنا القرآن الكريم ألوانا من الحوار المبنى على التواضع فكانت نتيجته النجاح والسداد .
انظر ـ على سبيل المثال - للحوار البديع الذى دار بن نبى الله سليمان عليه السلام وبين الهدهد . إن سليمان عليه السلام يتفقد جنده فلا يرى بينهم الهدهد فيقول : (فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) (سورة النمل : 20ـ 21) .
ويأتى الهدهد من رحلته بعد قليل فيقول لسليمان عليه السلام وهو الملك النبى بكل شجاعة : (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) .
وهكذا نرى الجندى الصغير فى الدولة التى يظلها العدل والأمان ، لا يمنعه صغره أن يرد على الحاكم الكبير وهو يحاوره ، وأن يدافع عن نفسه بكل حرية وشجاعة ، ونرى أن الحاكم الكبير يقابل الرد عليه من الصغير بكل تواضع ، ويفسح له المجال فى أن يدلى بكل حججه ، وأن يضعها موضع التحقيق والاختبار.
إن الحوار الذى يقوم على التواضع والاحترام المتبادل بين الأطراف ... يوصل فى الأغلب إلى النجاح ... أما الحوار الذى يكون مبعثه الغرور والتعالى ... فمن المستبعد أن يأتى بنتيجة تؤدى إلى الوفاق . والعقلاء عندما يرون المحاورة مع المغرورين تؤدى إلى الإفساد لا إلى الإصلاح يبتعدون عنها ، ويفوضون أمرهم إلى الله تعلى ولسان حالهم يقول : جلوا صارما وأتوا باطلا ، وقالوا أصبنا. فقلنا نعم !! .
(ج)هذه هى بعض أسس الحوار وأصوله ، وقد فصلنا الحديث عنها فى كتابنا "أدب الحوار فى الإسلام" أما مفردات الحوار في شريعة الإسلام ، فتمتاز باتساع دائرتها ، ووضوح قضاياها وشمولها لما لا يحصى من المسائل .
ومن هذه المفردات فى الموضوعات والمسائل والنماذج التى وردت فى القرآن الكريم :
1 ـ حوار بين الخالق عز وجل وبين بعض مخلوقاته ، ونقصد بهذا اللون من الحوار : ما قصه القرآن علينا من أن أنه - تعالى ـ قد قال لبعض عباده أقوالا بكيفية لا يعلمها إلا هو عز وجل لرسله يوم القيامة ـ وهو العليم بكل شىء ـ ماذا كان جواب أقوامهم عليكم حينما دعوتموهم إلى إخلاص العبادة لى وحدى؟ وقد جاء ذلك فى قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ) (سورة المائدة :109) .
أى : أذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ يوم يجمع الله رسله الكرام يوم القيامة فيسألهم بماذا أجابكم أقوامكم ؟ وهنا يجب الرسل إجابة كلها الأدب مع خالقهم - عز وجل ـ فيقولون : يا ربنا لا علم لنا يذكر بجانب علمك المحيط بكل شىء ، وأنت وحدك الذى تحكم بيننا وبينهم ، بمقتضى عدلك وكرمك .
كذلك من المحاورات التى درت بين الخالق - عز وجل - وبين رسله الكرام : قوله - عز وجل - لعيسى ابن مريم : (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (سورة المائدة : 116ـ 118) .
والمقصود من هذه المحاورة : توبيخ الكفرة من قوم عيسى عليه السلام ، وتبكيت كل من نسب إلى عيسى وأمه مريم ما ليس من حقهما ، وفضيحة الضالين على رءوس الأشهاد يوم القيامة؛ ولأن عيسى عليه السلام سينفى أمامهم أنه قال شيئا من ذلك ، ولاشك أن النفى بعد السؤال أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى ألهين من دون الله أبلغ فى التكذيب . وقد أجاب عيسى عليه السلام بأبلغ إجابة وبأوضح بيان حيث قال : أنزهك يا إلهى عن أن أقول ، فإنه ليس من حقى ولا من حق أحد أن ينطق به .
ثم أضاف عيسى عليه السلام إلى هذا الأدب العالى فى الجواب : إظهار ضعفه المطلق أمام علم خالقه - عز وجل - حيث قال : إن كنت قلت هذا القول فأنت تعلمه ، ولا يخفى عليك من شىء .
وبعد هذا التنزيه من عيسى عليه السلام لخالقه - عز وجل ـ وبعد هذا الإظهار أمام بارئه ... يصرح بما قال لقومه فقال : إنى يا إلهي ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم وإنى كنت شاهدا عليهم ، فلما قبضتنى إليك ، ورفعتنى إلى سمائك ، كنت أنت وحدك الحفيظ عليهم ..
ثم فوض عيسى عليه السلام الأمر كله إلى خالقه فقال : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه المحاورة الحكيمة بقوله : (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (سورة المائدة : 119) .
وتأمل معى - أيها القارئ الكريم - هذه الآيات الكريمة مرة ومرات ، وقل بربك : هل تجد حوارا فيه من الفضل العظيم لمن رضى الله عنهم ورضوا عنه ، وفيه من الأدب الرفيع من عيسى - عليه السلام - مع خالقه ـ سبحانه ـ كهذا الحوار؟ .
إن أمثال هذه المحاورات الحكيمة التى تزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، قد تكررت فى القرآن الكريم ، فهناك محاورات بين نوح وخالقه ، بعد أن رأى نوح ابنه وقد ابتلعته أمواج الطوفان ، فيقف ضارعا ومستسلما ويقول : يا رب : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (سورة هود : 45) .
أى : يا رب إن ابنى من أهلى وهو قطعة منى ، فأسالك أن ترحمه برحمتك الواسعة ... واكتفى نوح - عليه السلام - بقوله : (رب إ ن ابنى من أهلى ..) ولم يصرح بمطلوبه وهو طلب النجاة من العذاب لابنه ، تأدبا مع خالقه ، وحياء منه ، واعتقادا بأنه ـ سبحانه ـ عليم بما يريده ...
وهذا لون من الأدب السامى سلكه الرسل الكرام فى خطابهم مع خالقهم ، ومن أولى بذلك منهم ؟!!
وهناك محاورات دارت بين إبراهيم - عليه السلام - وبين خالقه - عز وجل ـ ، ومنها قول إبراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى)؟ أى : يا رب أرنى كيف تعيد الحياة إلى الموتى؟ فيجيبه خالقه ـ عز وجل – (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أى: قال الله لإبراهيم : أولم تؤمن يا إبراهيم بقدرتى على كل شىء؟ فيقول إبراهيم : (بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أى : قال إبراهيم بلى يا رب أنا مؤمن إيمانا تاما بقدرتك ، ولكنى سألت هذا السؤال ليزداد قلبى إيمانا بقدرتك عن طريق المشاهدة ...
فأجابه الله ـ تعالى - بقوله : (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أى : قال الله ـ تعالى ـ لنبيه إبراهيم : خذ أربعة من الطير فاضممهن إليك ، ثم اذبحهن وجزئهن أجزاء (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ) أى : ثم قال تعالين بإذن الله (يَأْتِينَكَ سَعْيًا ) أى : يأتينك إتيانا سريعا (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (سورة البقرة : 260) .
والمقصود بهذه المحاورة : إظهار أكمل الأدلة على قدرة الله - عز وجل - وعلى وحدانيته ، وبيان أنه سبحانه يجيب سؤال الأخيار ليزدادوا إيمانا على إيمانهم ، ويفتح بابه أمامهم ، لكى يسألوا عما يريدون السؤال عنه ...
بل لقد فتح الله ـ تعالى- بابه للحوار حتى مع إبليس ، وقد ورد ذلك فى سور متعددة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف : 11 : 18) .
ففى هذه الآيات الكريمة ورد لفظ "قال" ست مرات ، منها ثلاث مرات القائل هو الله - عز وجل - وثلاث أخرى القائل هو إبليس . وهى محاورات تدل على أن الله ـ تعالى ـ قد فتح بابه للحوار مع عباده ، فضلا منه وكرما، لكى يزدادوا إيمانا على إيمانهم ، ولكى يأخذوا منها العبر والعظات ، ولكى يتعلم العقلاء من هذه المحاورات الحكيمة ، ما يسعدهم فى حياتهم ، وما يهديهم إلى الصراط المستقيم
01 مارس, 2007
4 ـ التواضع : وهذه الفضيلة تُعَد من ألزم اللوازم لنجاح الحوار ، بينما التعالى والغرور بين المتحاورين يؤدى إلى سد الأبواب المفتوحة . ولقد ساق لنا القرآن الكريم ألوانا من الحوار المبنى على التواضع فكانت نتيجته النجاح والسداد .
انظر ـ على سبيل المثال - للحوار البديع الذى دار بن نبى الله سليمان عليه السلام وبين الهدهد . إن سليمان عليه السلام يتفقد جنده فلا يرى بينهم الهدهد فيقول : (فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) (سورة النمل : 20ـ 21) .
ويأتى الهدهد من رحلته بعد قليل فيقول لسليمان عليه السلام وهو الملك النبى بكل شجاعة : (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) .
وهكذا نرى الجندى الصغير فى الدولة التى يظلها العدل والأمان ، لا يمنعه صغره أن يرد على الحاكم الكبير وهو يحاوره ، وأن يدافع عن نفسه بكل حرية وشجاعة ، ونرى أن الحاكم الكبير يقابل الرد عليه من الصغير بكل تواضع ، ويفسح له المجال فى أن يدلى بكل حججه ، وأن يضعها موضع التحقيق والاختبار.
إن الحوار الذى يقوم على التواضع والاحترام المتبادل بين الأطراف ... يوصل فى الأغلب إلى النجاح ... أما الحوار الذى يكون مبعثه الغرور والتعالى ... فمن المستبعد أن يأتى بنتيجة تؤدى إلى الوفاق . والعقلاء عندما يرون المحاورة مع المغرورين تؤدى إلى الإفساد لا إلى الإصلاح يبتعدون عنها ، ويفوضون أمرهم إلى الله تعلى ولسان حالهم يقول : جلوا صارما وأتوا باطلا ، وقالوا أصبنا. فقلنا نعم !! .
(ج)هذه هى بعض أسس الحوار وأصوله ، وقد فصلنا الحديث عنها فى كتابنا "أدب الحوار فى الإسلام" أما مفردات الحوار في شريعة الإسلام ، فتمتاز باتساع دائرتها ، ووضوح قضاياها وشمولها لما لا يحصى من المسائل .
ومن هذه المفردات فى الموضوعات والمسائل والنماذج التى وردت فى القرآن الكريم :
1 ـ حوار بين الخالق عز وجل وبين بعض مخلوقاته ، ونقصد بهذا اللون من الحوار : ما قصه القرآن علينا من أن أنه - تعالى ـ قد قال لبعض عباده أقوالا بكيفية لا يعلمها إلا هو عز وجل لرسله يوم القيامة ـ وهو العليم بكل شىء ـ ماذا كان جواب أقوامهم عليكم حينما دعوتموهم إلى إخلاص العبادة لى وحدى؟ وقد جاء ذلك فى قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ) (سورة المائدة :109) .
أى : أذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ يوم يجمع الله رسله الكرام يوم القيامة فيسألهم بماذا أجابكم أقوامكم ؟ وهنا يجب الرسل إجابة كلها الأدب مع خالقهم - عز وجل ـ فيقولون : يا ربنا لا علم لنا يذكر بجانب علمك المحيط بكل شىء ، وأنت وحدك الذى تحكم بيننا وبينهم ، بمقتضى عدلك وكرمك .
كذلك من المحاورات التى درت بين الخالق - عز وجل - وبين رسله الكرام : قوله - عز وجل - لعيسى ابن مريم : (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (سورة المائدة : 116ـ 118) .
والمقصود من هذه المحاورة : توبيخ الكفرة من قوم عيسى عليه السلام ، وتبكيت كل من نسب إلى عيسى وأمه مريم ما ليس من حقهما ، وفضيحة الضالين على رءوس الأشهاد يوم القيامة؛ ولأن عيسى عليه السلام سينفى أمامهم أنه قال شيئا من ذلك ، ولاشك أن النفى بعد السؤال أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى ألهين من دون الله أبلغ فى التكذيب . وقد أجاب عيسى عليه السلام بأبلغ إجابة وبأوضح بيان حيث قال : أنزهك يا إلهى عن أن أقول ، فإنه ليس من حقى ولا من حق أحد أن ينطق به .
ثم أضاف عيسى عليه السلام إلى هذا الأدب العالى فى الجواب : إظهار ضعفه المطلق أمام علم خالقه - عز وجل - حيث قال : إن كنت قلت هذا القول فأنت تعلمه ، ولا يخفى عليك من شىء .
وبعد هذا التنزيه من عيسى عليه السلام لخالقه - عز وجل ـ وبعد هذا الإظهار أمام بارئه ... يصرح بما قال لقومه فقال : إنى يا إلهي ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم وإنى كنت شاهدا عليهم ، فلما قبضتنى إليك ، ورفعتنى إلى سمائك ، كنت أنت وحدك الحفيظ عليهم ..
ثم فوض عيسى عليه السلام الأمر كله إلى خالقه فقال : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه المحاورة الحكيمة بقوله : (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (سورة المائدة : 119) .
وتأمل معى - أيها القارئ الكريم - هذه الآيات الكريمة مرة ومرات ، وقل بربك : هل تجد حوارا فيه من الفضل العظيم لمن رضى الله عنهم ورضوا عنه ، وفيه من الأدب الرفيع من عيسى - عليه السلام - مع خالقه ـ سبحانه ـ كهذا الحوار؟ .
إن أمثال هذه المحاورات الحكيمة التى تزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، قد تكررت فى القرآن الكريم ، فهناك محاورات بين نوح وخالقه ، بعد أن رأى نوح ابنه وقد ابتلعته أمواج الطوفان ، فيقف ضارعا ومستسلما ويقول : يا رب : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (سورة هود : 45) .
أى : يا رب إن ابنى من أهلى وهو قطعة منى ، فأسالك أن ترحمه برحمتك الواسعة ... واكتفى نوح - عليه السلام - بقوله : (رب إ ن ابنى من أهلى ..) ولم يصرح بمطلوبه وهو طلب النجاة من العذاب لابنه ، تأدبا مع خالقه ، وحياء منه ، واعتقادا بأنه ـ سبحانه ـ عليم بما يريده ...
وهذا لون من الأدب السامى سلكه الرسل الكرام فى خطابهم مع خالقهم ، ومن أولى بذلك منهم ؟!!
وهناك محاورات دارت بين إبراهيم - عليه السلام - وبين خالقه - عز وجل ـ ، ومنها قول إبراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى)؟ أى : يا رب أرنى كيف تعيد الحياة إلى الموتى؟ فيجيبه خالقه ـ عز وجل – (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أى: قال الله لإبراهيم : أولم تؤمن يا إبراهيم بقدرتى على كل شىء؟ فيقول إبراهيم : (بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أى : قال إبراهيم بلى يا رب أنا مؤمن إيمانا تاما بقدرتك ، ولكنى سألت هذا السؤال ليزداد قلبى إيمانا بقدرتك عن طريق المشاهدة ...
فأجابه الله ـ تعالى - بقوله : (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أى : قال الله ـ تعالى ـ لنبيه إبراهيم : خذ أربعة من الطير فاضممهن إليك ، ثم اذبحهن وجزئهن أجزاء (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ) أى : ثم قال تعالين بإذن الله (يَأْتِينَكَ سَعْيًا ) أى : يأتينك إتيانا سريعا (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (سورة البقرة : 260) .
والمقصود بهذه المحاورة : إظهار أكمل الأدلة على قدرة الله - عز وجل - وعلى وحدانيته ، وبيان أنه سبحانه يجيب سؤال الأخيار ليزدادوا إيمانا على إيمانهم ، ويفتح بابه أمامهم ، لكى يسألوا عما يريدون السؤال عنه ...
بل لقد فتح الله ـ تعالى- بابه للحوار حتى مع إبليس ، وقد ورد ذلك فى سور متعددة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف : 11 : 18) .
ففى هذه الآيات الكريمة ورد لفظ "قال" ست مرات ، منها ثلاث مرات القائل هو الله - عز وجل - وثلاث أخرى القائل هو إبليس . وهى محاورات تدل على أن الله ـ تعالى ـ قد فتح بابه للحوار مع عباده ، فضلا منه وكرما، لكى يزدادوا إيمانا على إيمانهم ، ولكى يأخذوا منها العبر والعظات ، ولكى يتعلم العقلاء من هذه المحاورات الحكيمة ، ما يسعدهم فى حياتهم ، وما يهديهم إلى الصراط المستقيم