لايأتي التطور العلمي والتكنولوجي الأمريكي الذي فرض نفسه عالمياً من فراغ، وإنما هو نتاج عملية ضخمة ومعقدة تساهم فيها شبكة غير محدودة من الوكالات المتخصصة والأجهزة التشريعية والتنفيذية والوكالات الفيدرالية وهيئات العلماء والأفراد والجامعات وحتى المدارس الثانوية.
حول هذه القضية نشرت مؤسسة خدمة أبحاث الكونجرس في أبريل الماضي دراسة للمحلل المتخصص في مصادر سياسات العلوم والتكنولوجيا والتقسيمات الصناعية "ديبورا ستين Deborah D. Stine" تحت عنوان: "صناعة سياسات العلوم والتكنولوجيا".
يرى الكاتب أن عملية صنع سياسة العلوم والتكنولوجيا تنطلق من تعريف متفق عليه بين غالبية المحللين والمتخصصين، يقول بأنها "تلك السياسة المعنية بتجميع الموارد للبحث العلمي والتطوير التقني، وتشمل الدعم الحكومي لهما باعتبارهما الجذور الإستراتيجية للتنمية الصناعية والنمو الاقتصادي. وتضمن تلك السياسة كذلك استخدام العلم في التواصل مع المشكلات العامة بما يجعل هناك تلاحما عضويا بين البحث والتعليم العالي، ولذا يصعب فصل سياسات التعليم عن سياسة العلوم والتقنيات الفنية". بحسب موقع تقرير واشنطن.
بدايات الاهتمام الأمريكي بالعلوم والتكنولوجيا
أولى الدستور الأمريكي (1787) اهتماماً خاصاً بالعلوم والتكنولوجيا، إذ منح للكونجرس صلاحية دعم العلوم والفنون المفيدة، وتأمين حقوق المبتكر والمؤلف، وأعطى له سلطة إنشاء الجامعات وعقد المؤتمرات لتعزيز العلوم وتشجيع الاكتشافات الحديثة والمعارف المفيدة.
وأقر الكونجرس في عام 1790، أي في عهد الرئيس جورج واشنطن، أول قانون يتعلق ببراءات الاختراع، وهو ما أدى إلى إنشاء مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية Patent and Trademark Office (PTO).
وقد تطرق الدستور أيضاً إلى استخدام العلوم والتكنولوجيا في إجراءات مثل صك العملات ومعايير الموازين والمقاييس وغيرها، وهو ما أدى إلى إنشاء المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا National Institute of Standards and Technology (NIST).
وقد كان التركيز في السنوات الأولى لنشأة الولايات المتحدة ينصب على كيفية استخدام الساسة للعلوم، بمعنى أن التكنولوجيا والعلم هما في خدمة السياسة، حيث كان يتم طلب المشورة والنصح الفني والعلمي فيما يتعلق بالصحة العامة والزراعة والمسائل الجغرافية. وعلى سبيل المثال فقد شكل الرئيس جيفرسون لجنة لويس/كلارك لاستكشاف أراضي أمريكا الغربية وإجراء مسح جيولوجي لها.
ومع اتساع الدولة، باتت المعارف التقنية على صلة وثيقة بقضايا الدفاع والرفاه والتعليم، وبدأت الاهتمامات بتطوير التلسكوبات والاستكشافات البحرية والبحث عن المعادن. وبالتالي بدأ الكونجرس في عام 1884 يبحث في كيفية تعاون الحكومة في كافة المجالات العلمية، فشكًل لجنة من ثلاثة أعضاء عُرفت باسم لجنة أليسون، لبحث القضية. وأوصت اللجنة بحاجة الحكومة للتعاون مع أقسام العلوم والجامعات الوطنية، وأكدت على ضرورة التمويل الفيدرالي للعلوم، لكنها لم تقترح إنشاء إدارة خاصة لذلك الغرض.
سياسة العلم والتكنولوجيا على الأجندة الأمريكية
ومع بدايات القرن العشرين، ونشوب الحرب العالمية الأولى، أضحت هناك قضايا عديدة في صلب اهتمام الدولة مثل الطب والصحة العامة. فضلاً عن الحاجة لأكبر عدد ممكن من التنظيمات العلمية داخل الحكومة الفيدرالية مثل إدارة الطعام والأدوية. كما بدأ في هذه الفترة إنشاء معامل الأبحاث الصناعية الضخمة وصناعات الحجم الكبير، وبرزت ضرورة استخدام التكنولوجيا لتطوير القدرات التسليحية.
وبين الحربين العالميتين، تركز الاهتمام على تطبيقات البحث والتكنولوجيا للأغراض العسكرية والاقتصادية. ولم تعد المساهمات التطوعية هي المصدر الأول لتمويل الأبحاث والتطوير بل أضحى التمويل بيد الحكومة الفيدرالية. وأدى هذا التطور إلى تغير نمط العلاقة بين الحكومة وبين مجتمع العلوم والتكنولوجيا، وتم التركيز على قطاعات التسليح والاتصالات، وحدث التوسع في استخدام الكيماويات والطائرات والأسلحة التقنية والرادارات أثناء الحرب العالمية الثانية. وتبعاً لذلك، أنشأ الرئيس "فرانكلين روزفلت" مكتب البحث العلمي والتطوير داخل البيت الأبيض في عام 1941، إضافة إلى بدء مشروع مانهاتن الذي هدف إلى صناعة القنبلة النووية.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في عام 1945، أعد "فاننفار بوش" مدير مكتب البحث العلمي والتطوير بمكتب الرئيس روزفلت، برنامجا للبحث العلمي في فترة ما بعد الحرب، وأوصى الحكومة بأن تأخذ مسؤولية جديدة تجاه تجديد روح الابتكار وتنمية المواهب الوطنية، واقترح تأسيس وكالة فيدرالية لتشجيع المعرفة العلمية الحديثة لأن التقدم العلمي جوهري للصحة العامة وللمجتمع وللأمن القومي. ووفقا لتوصية بوش، فقد تم تأسيس المؤسسة الوطنية للعلوم National Science Foundation (NSF).
ومن هنا بدأ النقاش يتركز حول كيفية خدمة السياسة للعلوم والتكنولوجيا، وليس العكس فقط، بحيث أضحت العلاقة تبادلية مع الوقت، وأصبح الاتجاه السائد هو أن ثمة سياسة للعلوم وعلوم للسياسة وسياسة للتكنولوجيا وتكنولوجيا للسياسة، حتى أصبح صانعو القرار السياسي في قلب صناعة سياسات العلوم والتكنولوجيا.
والآن وبناء على العلاقة التبادلية بين هذه الاتجاهات الأربعة، باتت العلوم والبحوث الهندسية وكافة الاختراعات ترتبط ارتباطاً عضويا بالحاجات الاجتماعية وباقتصاد الدولة كما يظهر في مجالات الطاقة والنقل والاتصالات والزراعة والتعليم والبيئة والصحة والدفاع والتوظيف.
الكونجرس وسياسات العلوم والتكنولوجيا
تؤثر القرارات التي يتخذها الكونجرس في قضايا العلوم والتكنولوجيا، فهو المسئول عن تمويل الأبحاث ودعم التنمية التكنولوجية والعلمية والهندسية والتعليم الهندسي والرياضي. كما تؤثر التكنولوجيا في كافة القضايا العامة التي يتناولها الكونجرس مثل قوانين الطائرات والأنشطة الفيدرالية البحرية وغيرها.
ويتلقى الكونجرس لدى صنع القرارات مشورات من لجانه المتخصصة ومن المهتمين بسياسة العلوم والتكنولوجيا ومن الوكالات التي تدعم أعماله البحثية. فضلاً عن جلسات استماع والحصول على معلومات من مصادر خارجية أخرى. وهي على النحو التالي:-
وترتبط كل لجان الكونجرس بدرجة ما بصناعة العلوم والتكنولوجيا وتستخدم هذه المعارف لدى اتخاذ القرارات في قضايا مثل: الأمن الغذائي في المدارس، وقوانين النوع، وتحديد المعايير الطبية والصحية، وخلق الوظائف، وحالات الاستجابة للكوارث المختلفة.
لكن قضايا العلم تقع تحديدا ضمن اختصاص لجنة مجلس النواب للعلوم والتكنولوجيا، ولجنة مجلس الشيوخ للتجارة والعلوم والنقل.
وتشمل مجالات عمل اللجنة الأولى سياسات الطاقة، الفلك، الطيران المدني، البيئة، بحوث التعدين، التطبيقات التجارية للتكنولوجيا، والمنح العلمية. وللجنة سلطات مستقلة وخاصة في مراجعة ودراسة القواعد القانونية والبرامج والأنشطة الحكومية المتعلقة بالبحوث والتطوير في كافة المجالات. أما لجنة مجلس الشيوخ، فهي تهتم بوجه عام بالعلوم الهندسية وبحوث التكنولوجيا والتطوير ووضع السياسات العلمية.
ولا يدخل ضمن اختصاص اللجنتين البحوث المتعلقة بالشؤون الدفاعية إذ أنها ضمن صلاحيات لجنة خدمات القوات المسلحة بمجلسي الكونجرس. وكذا لا يتناولان مجالات بحوث الكيمياء الحيوية التي تدعهما المؤسسة الوطنية للصحة National Institute of Health (NIH)، وتقع في إطار عمل لجنة الطاقة والتجارة بمجلس النواب، ولجنة مجلس الشيوخ للصحة والتعليم والعمل والمعاشات.
المجموعات غير الرسمية
بسبب تعاظم الاهتمامات بشؤون العلوم والتكنولوجيا، فقد سمح أعضاء الكونجرس لمجموعات غير رسمية في التشكل سويا وإنشاء روابط مع الكونجرس ولجانه بحيث تهتم هذه المجموعات بقضايا العلوم، ويساعدها في ذلك جماعات الضغط المختلفة. وبطبيعة الحال تتغير هذه المجموعات من آن لآخر وفق تغير أعضائها أو تغير مصالحهم.
ومن هذه المجموعات الكثيرة، تحالف العلماء والمهندسين والذي يرعى أحداثا خاصة لمجموعات غير رسمية لها اهتمامات علمية، ومؤتمر بحوث الكيمياء الحيوية، ومؤتمر الكونجرس لمنع الاحتكار والتنافسية، ومؤتمر الكونجرس للعلوم، ومؤتمر مجلس الشيوخ للتكنولوجيا والعلوم والهندسة والرياضيات، ومؤتمرات أخرى مثل (الابتكارات والكشوف، والإنترنت، والبحوث والتطوير..
وكالات تدعم الكونجرس
أسس أعضاء الكونجرس وكالات داعمة تضم فرق عمل لديها خبرة في سياسات العلوم والتكنولوجيا، وهي:
خدمة أبحاث الكونجرس، ويعمل بها 700 موظفا في مختلف القضايا، منهم 450 محللا متخصصا، وعلى الأقل يوجد نحو 70 متخصصا في قضايا علمية وتكنولوجية.
مكتب المحاسبة الحكومية Government Accountability Office (GAO)، وبه نحو 3100 موظفا، ويقدم العديد من خدمات لأعضاء الكونجرس تشمل التعريف بالاختصاصات والواجبات، والرقابة والإشراف والمراجعة وتقييم البرامج التنفيذية.
مكتب موازنة الكونجرس Congressional Budget Office (CBO)، ويعمل به نحو 230 محللا اقتصاديا وخبيرا في السياسات العامة، ويزود الكونجرس بالمعلومات ويقدم المشورة فيما يخص الموازنة الفيدرالية.
تناولنا في الفقرات السابقة بدايات الاهتمام الأمريكي بالعلوم والتكنولوجيا، ودور الكونجرس في تدعيم سياسة العلوم والتكنولوجيا. والآنسنركز على دور البيت الأبيض في هذا الصدد، والتعرف على أبرز المنظمات التي تمد صانعي السياسة بالمشورة العلمية والتكنولوجية.
يضم البيت الأبيض العديد من المكاتب والمنظمات التي ترتبط بشكل مباشر بصنع سياسات العلوم والتكنولوجيا، وهذه المكاتب تقدم المشورة للرئيس ولموظفي السلطة التنفيذية في الدرجات الأعلى. ومن هذه المنظمات والمكاتب، ما يلي:-
مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا OSTP
حتى بدايات القرن العشرين، كان الرئيس الأمريكي يحصل على المشورة العلمية بشكل غير رسمي عبر الأصدقاء والمقربين والوكالة الفيدرالية للعلماء والمهندسين. وفي عام 1933، استحدث الرئيس "روزفلت" مجلس المشورة العلمي Science Advisory Board لإمداده بالتوصيات حول سياسة الحكومة الفيدرالية في الشؤون العلمية. وعندما دخلت أمريكا الحرب العالمية الثانية، كانت الحكومة ذاتها تنسق جهود اللجنة الوطنية لبحوث الدفاع. وفي عام 1951، أنشأ الرئيس "هاري ترومان" لجنة المشورة العلمية في مكتب التعبئة العسكرية لتقديم المشورة للرئيس في أبحاث الدفاع. وفي عام 1957، أنشأ الرئيس "أيزنهاور" مكتب المساعدة الخاصة للرئيس للعلوم والتكنولوجيا.
وفي عام 1961، أوصى مجلس الشيوخ بإنشاء مكتب للعلوم والتكنولوجيا داخل المكتب التنفيذي للرئيس، فأسسه الرئيس "جون كينيدي" عام 1962. لكن الرئيس "نيكسون" عاد فاكتفى بتعيين مدير الوكالة الفيدرالية للعلوم مستشارا علميا له، بينما طالب الرئيس "جيرالد فورد" من الكونجرس الإقرار بإحياء الآلية السابقة، فأصدر الكونجرس في 11 مايو 1976 قرارا يقضي بإنشاء مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا Office of Science and Technology Policy (OSTP). ومنذ هذا الوقت بقي هذا المكتب قائما، لكن دوره يختلف من رئيس لآخر ومن مدير لأخر.
ويقوم هذا المكتب بتقديم المشورة للرئيس وللأفرع التنفيذية الأخرى حول تأثير العلوم والتكنولوجيا على الشؤون المحلية والدولية، والعمل مع القطاع الخاص للتأكد من استخدام الاستثمارات العلمية لتعزيز الوضع الصحي والأمن القومي والرفاه والبيئة، وبناء شراكات قوية بين الولايات والحكومات المحلية وبين المجتمع العلمي، وتقييم جودة وفاعلية الجهود الفيدرالية في مجال العلوم.
مكتب الإدارة والموازنة OMP
يساعد مكتب الإدارة والموازنة Office of Management and Budget الرئيس في إعداد الموازنة الفيدرالية والإشراف على وكالات وأجهزة السلطة التنفيذية ويضع أولويات العمل والبرامج المختلفة. ويشترك مديره ومدير مكتب العلوم والتكنولوجيا في تقديم مذكرة سنوية للرئيس تحدد الأولويات الرئاسية في مجال الاستثمار العلمي والتكنولوجي.
وإضافة لهذين المكتبين، ثمة مكاتب أخرى داخل السلطة التنفيذية تلعب دورا محوريا في سياسات العلوم والتكنولوجيا، من أبرزها: مجلس الأمن القومي National Security Council (NSC)،
والمجلس الاستشاري الاقتصادي Council of Economic Advisor (CEA)،
ومجلس الجودة البيئية Council on Environmental Quality (CEQ).
وفى صفحتنا التالية
سنعرض قادة الوكالات الفيدرالية
واهم المنظمات التى تقدم المشورات العلمية لصانعى القرار
فتابعوا معى