يقول الحق سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}.
ربنا -عز وجل- مسح بيديه على ظهر سيدنا آدم فخرج من ظهره كل البشر وسألهم الله: "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ"؟ فشهدنا جميعا بأنه الله الخالق الواحد الأحد. وهذه هي الفطرة السليمة، تلك الفطرة التي تملأ قلوبنا وتشدنا لرحاب الله، الفطرة التي تفرق بين حلال الأمر وحرامه والتي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "البر ما اطمئنت له النفس، والإثم ما حاك في الصدر وخشِيتَ أن يطلع عليه الناس". هذه الفطرة التي خلقنا الله عليها.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة" أي على التوحيد وأنه منجذب لطاعة ربنا. ويولد مع الفطرة حاجَة بشرية تسمى الشهوة وهوى النفس. وعلى الإنسان أن يجاهد نفسه وهواه؛ لتستقيم حياته على هذه الفطرة السليمة ويعود إلى ربه سليم القلب مكتمل الإيمان فيكون مصيره الجنة.
والشهوات يزينها الشيطان للإنسان؛ ليوقعه في معصية الله ويبعده عن حصنه الذي يتحصن به ويبعده عن جنة طاعة ربه. من هنا كان ولا بد من مجاهدة النفس ونهيها عما تهواه من المعاصي والمخالفات: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.
ومن الشهوات شهوة النظر لما حرم الله، ولهذا قيل في الحديث المشهور: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها مخافة الله أبدله الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه". ومن هنا نعلم أن كل شهوة وهوى يخالف أمر الله إذا تركه الإنسان مخافة ربه عوّضه الله في الدنيا بحلاوة الإيمان والطاعة والتوفيق وبأن يظلله بظل رضاه من كل ما يكره وما يبعده عن ربه.
ويقول رب العالمين: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}. أي أن الإنسان الذي يجاهد في سبيل الله نفسه وهواه سيهديه الله الطريق المستقيم ويوفقه لكل سبيل يقرب إليه سبحانه، ليكون بمجاهدته لنفسه وهواه وليًّا لله وتتحقق فيه الآية: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}. فلا يعتريه خوف، ولا يُشقي أيامه حَزَن.
وجهاد النفس والهوى ليس أمرا هينا، بل هو أمر شاق وعظيم ولهذا كان الأجر عليه عظيما. انظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما عاد الصحابة من الجهاد بالسيوف ماذا قال: "رجعنا من الجهاد الأصغر للجهاد الأكبر، قيل: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: "جهاد النفس والهوى". ويعلمنا النبي أنه سيأتي على المسلمين زمن القابض فيه على دينه كالقابض على جمرة من نار. لنعرف مدى عظم أمر جهاد النفس والهوى. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
إن سيدنا "أبا بكر الصديق" تولّى الخلافة وقبل أن يموت أراد أن يوصي سيدنا "عمر بن الخطاب" فقال له: "يا عمر أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك؛ لأنك لو انتصرت عليها ستنتصر على أعداء الدين".
وعندما ذهب أحد الصالحين لزيارة "ابن تيمية" في السجن رق قلبه وبكى لحاله فما كان من "ابن تيمية" إلا أن قال له: "يا بني أتبكي لحبسي. أتبكي لأسري؟!! إن المحبوس من حُبِس قلبه عن الله، وإن المأسور من أسره هواه، وشهوته".
ويقول الحق سبحانه وتعالى عن النفس البشرية: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} أي من جاهدها ليستقيم أمرها، {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أي من اتَّبع شهواتها وكان طائعا لأمرها فهوى بها.
يا أحبائي، إن للمعصية طعما حلوا يزينه الشيطان، فمن تركها خوفا من غضب ربه كان مجاهدا لنفسه وهواها؛ فإن جهاد النفس يعني مخالفتها في إتيان ما نهى الله عنه، وإجبارها وتطويعها لكل ما أمر به. حتى وإن كرهت النفس ذلك في أول الأمر لما تجد من المشقة فإنها حتما ستستجيب للفطرة السليمة بمرور الوقت. ولهذا أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أفضل الأعمال "إسباغ الوضوء على المكاره". كأن تكون في برد الشتاء فتقوم من نومك في فجرك تاركا الدفء؛ لتتوضأ وتتهيأ للصلاة وسط ما تكره النفس من البرد وترك الراحة.
فهنيئا لمن يجاهد النفس في سبيل الله تعالى. هنيئا لمن يوفي بعهده الأول من يوم (ألست بربكم).. هنيئا لمن نظر لما في يد الله ووثق به وترك ما في يمينه من متعة زائلة ومتاع قليل.
وقبل أن أختتم حديثي القصير عن جهاد النفس والهوى، أذكركم ونفسي بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول:
"إن المؤمن إذا أذنب ذنباً صار عنده كالجبل فوق رأسه، وإن المنافق إذا أذنب ذنباً صار عنده كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا".
وذلك ليعطينا علامات نتعرف بها على أنفسنا وهل هي أمّارة بالسوء أم نفوس مطمئنة..
فعَلِمْنا أن من علامات النفس الأمّارة بالسوء التمتع بما تجنيه من حلاوة المعصية.. وعدم الانشغال كثيرا بما وقعت فيه من ذنب.
ومن علامات النفس المطمئنة أن فِعل الخطأ يكون على رأس صاحبها كالجبل، فيبيت مهموما محزونا مستغفرا ربه إلى أن يأذن الله بأن يحجب عنه آثار هذا الذنب، أو يغفره له ويمحوه من كتابه فيصبح منشرح الصدر موصولا بربه.